طرق الصوفية
أولاً : الطريقة القادرية
نسبتها:
مؤسس الطريقة القادرية هو عبد القادر بن موسى، المعروف بالشيخ عبد القادر الجيلاني أو الجيلي. ولد سنة 471هـ (1077م) بجيلان، وهي منطقة في بلاد فارس.
ويعتبر الصوفيون أن الجيلاني هو أول من نادى بالطرق الصوفية وأسسها([1]).
وللجيلاني عدة قصائد في الخمر، منها قصيدة عنوانها "سقاني حبيبي" يقول فيها:
سقاني حبيبي من شراب ذوي المجد فأسكرني حقاً فغبت عن وَجدي
حضرت مع الأقطاب في حضرة اللقا فغبت به عنهم وشاهدته وحدي
فمـا شـرب العشـاق إلاّ بقيتـي وفضلة كاساتي بها شربوا بعدي
ولو شربوا ما قـد شربت وعاينوا من الحضرة العلياء صافي موردي
لأمسوا سكارى قبل أن يقربوا المدا م وأمسوا حيارى من مصادمة الوِرد([2]).
وفي سنة 488هـ (1095م)، ارتحل إلى بغداد، ودرس مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ثم سلك طريق التصوف على يد حمّاد الدّباس([3]). بعد ذلك، قضى الجيلاني 25 عاماً يسيح في صحاري العراق، كان يأوي خلالها إلى الخرائب معتزلاً الناس، ملازماً لأنواع الرياضات والمجاهدات الصوفية، وقد قال هو عن تلك الرحلة: "قاسيت في بدايتي الأهوال، وكنت أقتات بقمامة البقل من شاطئ النهر، وكانت على رأسي خريقة، وعلى ظهري جبة صوف، وربما حملني الناس إلى البيمارستان (المستشفى)، وقد تكرر ذلك وكانت تطرقني الأحوال ليلاً وأنا في الصحراء، فاملأ البر صراخاً"([4]).
ثم عاد عبد القادر إلى بغداد ، واشتغل بالتدريس والوعظ ونشر التصوف، حتى توفي سنة 561 هـ، ودفن في المدرسة التي أسسها في بغداد، وله مؤلفات أهمها:
1ـ الغنية لطالبى طريق الحق عز وجل.
2ـ الفتح الرباني.
3ـ فتوح الغيب.
4ـ الفيوضات الربانية.
5ـ جلاء الخاطر في الباطن والظاهر([5]) .
وبعد وفاة عبد القادر، خلفه على الطريقة ابنه عبد الوهاب (522ـ 593هـ)، ثم بعد وفاته، رأس الطريقة أخوه أبو بكر عبد الرزاق (528 ـ 603هـ)، الذي يروي عنه الصوفية أنه ظل ثلاثين سنة لا يرفع رأسه إلى السماء، حياءً من الله([6]).
ويعتقد المتصوفة أن انتشار الطريقة القادرية في مصر يعود إلى أحد أبناء عبد القادر الجيلاني، وهو عيسى بن عبد القادر، صاحب كتاب "جواهر الأسرار ولطائف الأنوار" ويقولون إن عيسى "استحضر الرّمان لامرأة تعالج به، وكان أبو الإمام قد وصفه لها في غير موسمه، عندئذ قال له أبوه إن بغداد لن تسعهما معاً، وأمره بنزول مصر"([7])، وبسبب ذلك فإن العامة تسمي عيسى الجيلاني "أبا رمانة".
أهم عقائدها:
1ـ يؤمن أتباع الطريقة القادرية بعقيدة وحدة الوجود([8]) التي تدين بها الصوفية، وقد ورد ذلك في ثنايا بعض مؤلفات شيخها الجيلاني، منها قوله: "الحمد لله الذي وُجد في كل شيء، وحضر عند كل شيء"([9]) وقوله: "ومعنى الوصول إلى الله عز وجل خروجك عن الخلق، فإذا وصلت إلى الحق عز وجل ـ على ما بيّنا ـ فكن آمناً أبداً من سواه عز وجل، فلا ترى لغيره وجوداً ألبتة"([10]).
2ـ الاعتقاد بأنه بإمكان الصوفي رؤية الله في الدنيا، وذلك برفع حُجُب الكائنات عن قلبه. يقول عبد القادر: "المؤمن العارف له عينان ظاهرتان، وعينان باطنتان، فيرى بالعينين الظاهرتين ما خلق الله عز وجل في الأرض، ويرى بالعينين الباطنتين ما خلق الله عز وجل في السماوات، ثم يرفع الحجب عن قلبه، فيراه، فيصير مقرّباً"([11]).
3ـ ذم الآخرة وطلاّبها، بزعم أن مقصود الصوفية هو الوصول إلى الامتزاج بالوجود الإلهي، إذ يقول الجيلاني:"شجاعة الخواص (أي الصوفية) في الزهد في الدنيا والآخرة"([12]). ويقول أيضا "اخلع نعليك: دنياك وآخرتك، وتجرد عن الأكوان، وافن عن الكل، وتطيب بالتوحيد"([13]).
أذكارهم وعباداتهم:
يتمثل الذكر الأساسي في القادرية بـ (لا إله إلاّ الله)، حيث يجلس الذاكرون على الركبة مثل الصلاة، ويتوجهون نحو القبلة، يغلقون أعينهم خلال الذكر([14]).
وقد خصصت القادرية بعض أيام الأسبوع ولياليه بصلوات محددة، وقد أورد الجيلاني في كتابه "الغنية" عدداً من الأحاديث الموضوعة التي تؤيد ذلك منها: "من صلّى يوم الأحد أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب، و(آمن الرسول) مرّة، كتب الله له بعدد كل نصراني ونصرانية حسنات، وأعطاه ثواب نبي، وكتب له حجة وعمرة، وكتب له بكل ركعة ألف صلاة، ثم أعطاه الله تعالى في الجنة بكل حرف مدينة من مسك أذخر"([15])
من كراماتهم المزعومة:
نسب أتباع القادرية لشيوخهم، وعلى الأخص للجيلاني، عدداً لا يحصى من الكرامات، كما هي عادة جميع طرق الصوفية: منها، قولهم أنه صلّى الصبح أربعين سنة بوضوء العشاء، وأنه كان يسير في الهواء، وعلى رؤوس الناس، ويخاطب الجن ويهديهم، وأنه صام رمضان وهو في المهد فلم يرتضع من الفجر إلى الغروب طوال الشهر، وأن الناس صاموا لصومه وأفطروا في عيد الفطر لفطره([16]).
وروى الصوفية أن عمة الشيخ عبد القادر كانت من كبار الأولياء، وادّعوا أن بلاده جيلان أجدبت مرّة، واستسقى أهلها فلم يسقوا "فأتى المشايخ إلى دار الشيخة أم محمد عمة الشيخ عبد القادر رضي الله عنه، وسألوها الاستسقاء فقامت إلى رحبة بيتها وكنست الأرض وقالت: يا ربَّ (أنا كنست فرشّ أنت)... فلم يلبثوا أن أمطرت السماء كأفواه القرب، ورجعوا إلى بيوتهم يخوضون في الماء"([17]).
وقالوا بأن أمه حملت به وهي بنت ستين سنة، كما نسبوا إليه القول بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في أحد أيام شهر شوال سنة 521هـ، وتفل في فمه سبعاً ليصبح فصيحاً، وينهض بالدعوة إلى الله، وعند ذاك حضر مجلسه خلق كثير، ثم رأى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قائماً بإزائه في المجلس، وشدّ من أزره، وتفل في فمه ستاً، ولم يكملها سبعاً تأدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم...([18]).
كيفية الانتساب للطريقة:
1ـ اللقاء الأول بين المنتسب ، وبين الشيخ، ويتضمن ( العهد والاستغفار، والتوبة، والطاعة، والذكر).
وقبل البدء، يصلي المنتسب أو المريد ركعتين نفلاً، ويقرأ الفاتحة للنبي صلى الله عليه وسلم ولإخوانه المرسلين والنبيين.
وبعد الصلاة وقراءة الفاتحة يجلس المريد بين يدي الشيخ، ملصقاً ركبته اليمنى بيد الشيخ اليمنى، الذي يلقنه الاستغفار، وصيغته: "استغفر الله العظيم الذي لا إله إلاّ هو الحي القيوم وأتوب إليه، وأشهد الله وملائكته ورسله وأنبياءه بأني تائب لله منيب إليه، وأن الطاعة تجمعنا، وأن المعصية تفرقنا، وأن العهد عهد رسوله، وأن اليد يد شيخنا وأستاذنا الشيخ محيي الدين عبد القادر الجيلاني قدس سره، وعلى ذلك أحل الحلال، وأحرم الحرام، وألازم الذكر والطاعة بقدر الاستطاعة، ورضيت بحضرة شيخنا المشار إليه شيخا لي وطريقته لي، والله على ما أقول وكيل".
ثم يقرأ الشيخ أية المبايعة (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)([19]) .
2ـ يطلب الشيخ من مريده الالتزام ببعض الأخلاق كتحمل الأذى وترك الحقد... فإذا قبلها ينتقل إلى مرحلة المبايعة والقبول، حيث يقول الشيخ: "وأنا قبلتك ولداً وبايعتك على هذا المنوال"([20]).
3ـ تنتهي المراسم بالمبايعة فتنفصل الأيدي المتشابكة، وتبتعد الركب المتلاصقة، ثم تأتي مرحلة الدعاء مختومة بشرب الكأس.
والكأس هو إناء يتناوله الشيخ محتوياً على ماء، وقد يكون ممزوجاً بسكر، وقد يقرأ الشيخ على الكأس قوله تعالى (سلام قولاً من رب رحيم)([21])، وقوله تعالى (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)([22]) ثم يتلو ذلك قراءة الفاتحة والإخلاص ثلاث مرات، ويتناول مريده الكأس ليشربه.
وبهذه الطقوس تنتهي المرحلة الأولى من الانخراط في الطريقة، فيصبح المريد في عداد المريدين، ويلزم شيخه الذي أخذ عنه العهد، ويكون طالباً مرتبطاً بالشيخ([23]).
4ـ وإذا تعمق المريد في الطريقة، فإنه ينتقل إلى مرحلة أعلى، وهي أن يستغني عن شيخه بالوصول إلى الله عز وجل، فيتولاه الله تعالى بعد ذلك بتربيته وتهذيبه، فيستغني عن غيره.
وعند تحقق الانفصال بين الشيخ والمريد، يمنح المريد إجازة المشيخة، وتكون خطبة تشهد له بلوغ مراده، فيكون شيخاً في عداد الشيوخ([24]).
علاقتهم بالرفاعية:
ذهب أتباع القادرية إلى أن شيخهم عبد القادر الجيلاني كان شيخاً لأبي العباس الرفاعي شيخ الطريقة الرفاعية، والرفاعي تابعاً، ويذهب الرفاعية إلى عكس ذلك، إذ يقولون أن الجيلاني هو الذي كان تابعاً للرفاعي، "ثم يختلق كل واحد من هذه الطوائف روايات وحكايات مزوّرة مكذوبة لترجيح مرشدهم وتفضيل سيدهم على الآخر"([25]) .
انتشارها:
تنتشر القادرية في العراق ومصر وتركيا واليمن والصومال الهند والمغرب وغرب السودان وبعض بلدان أفريقيا، وتفرعت منها طرق صغيرة، منها: اليافعية والنابلسية والرومية والعروسية([26]) ومنها كذلك: الصمادية والرومية والعزيزية والهندية والمقدسية([27]).
ومنها أيضاً: الأشرفية في تركيا، نسبة لمؤسسها عبد الله الأشرفي الرومي، وتسمى أيضاً: الواحدية([28]).
ومنها في السودان: الطريقة البكائية ، ولها فرعان: الفضيلة، والآل سيدية. والطريقة العركية، وتتركز في مدينتي أبو حراز وطيبة الشيخ عبد الباقي في ولاية الجزيرة، وشيخها الحالي هو أحمد عبد الباقي، وقد خلف والده على مشيخة الطريقة سنة 1992م.
وتنسب هذه الطريقة إلى الشيخ عبد الله العركي، المتوفى سنة 1019هـ (1611م). وفيما يتعلق بالطريقة القادرية عموماً، فيعتقد أن الذي أدخلها إلى السودان، تاج الدين البهاري، في القرن العاشر الهجري*.
ومنها : البودشيشية، في المغرب، وشيخها الحالي حمزة بن العباس*.
ومنها: اليافعية، والمشارعية، والعرابية في اليمن والصومال.
ومنها: البناوة، والكرزمر في الهند.
ومنها: الخلوصية، والهندية، والنابلسية، والرومية، والوصلنية في تركيا.
الكسنزانية، في العراق، وخاصة في مدينة كركوك، وشيخها الحالي هو محمد الكسنزاني، المولود سنة 1358هـ (1938م)، وتنسب الطريقة إلى عبد الكريم الشاه الكسنزان المولود سنة 1240هـ في شمال العراق، وقد انتسب إليها عدد من المسؤولين العراقيين السابقين .
كما أنها تعد أصلاً لكثير من الطرق التي نشأت بعدها، كالعدوية([29]) ، والمدينيّة، والسهروردية، والأكبرية، والمولوية، والرفاعية، والخلوتية([30]).